Monday 25 July 2016

الرواية الأكثر تأثيرا في النفس

بالتزامن مع الأحداث في تركيا من انقلاب فاشل، أقدم لكم اليوم رواية من أفضل الروايات التي قرأتها وهي رواية قواعد العشق الأربعون للكاتبة التركية إيليف شفاق. يدور موضوع الرواية عن الصوفية من حيث نشأتها والظواهر الاجتماعية التي دارت حولها ونظرة الناس المختلفة لها في أسلوب روائي رائع. وبالرجوع الى تعريف الصوفية اللغوي فيُعتقد أنها جاءت من تسمية أهل الصُفّة  وهم عبارة عن مجموعة من فقراء المهاجرين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُقال أيضاً هي من أصل كلمة الصوف لأن أهل الصوفية يكثرون من لبس الصوف الأبيض الدال على الكفن وصفاء الباطن، والكثير من التعاريف الاخر كذلك تجدونها على الانترنت.

أما الصوفية كحركة اجتماعية فهي عبارة عن رد فعل انساني على تردي الأوضاع في المنطقة بسبب تمزق الأمة وهجوم المغول بالإضافة الى الحروب الصليبية وغيره من النكبات التي حلت بالأمة، فهي تُعنى بالرجوع الى فطرة الانسان ومعرفة الله حق المعرفة. فالتصوف عبارة عن الهروب الى الداخل والعزلة والرجوع الى دين الفطرة والتوحيد لله. فأحد قواعد العشق الأربعون تنص على " الوحدة والعزلة شيئين مختلفين. فعندما تكون وحيداً يسهل أن تخدع نفسك وتظن أنك تسلك الدرب الصحيح. أما العزلة فهي أفضل لنا لأنها تعني أن الفرد يكون وحيداً دون أن ينتابه الاحساس بالوحدة. ولكن الأفضل في نهاية المطاف أن يجد المرء شخصا يكون مرآة لك. تذكر أنك لا تستطيع رؤية نفسك وحضور الله في أعماقك إلا من خلال قلب شخص آخر".

نستطيع القول بأن التصوف هو شبيه جداً بالسلفية، إذ أن السلفية كمعتقد جاء في فترة لاحظ كبار العلماء فيها ضعف الدين في البلاد الاسلامية، فجائت السلفية كعلاج مرحلي لتردي الاوضاع في دولة الاسلام من خلال إعلان ضرورة الرجوع الى منهج السلف الصالح.

فالصوفية هي رياضة وترويض للنفس وإبعادها عن سبل الراحة والترف، والتفكر والتأمل في خلق الله، ومن أعظم علماء الاسلام الذين اتصفوا بالصوفية وأبدعوا في طرقها هم ابن عطاء الله السكندري والنووي والغزالي والعز بن عبدالسلام وشمس التبريزي وجلال الدين الرومي. فقد قسم الامام الغزالي الصوفية في كتابه إجياء علوم الدين الى ثلاثة أنواع: 1) صوفية الحقائق: والتي يقصد بها التوصل الى معرفة الله من خلال التأمل في الكون ، 2) صوفية الرسوم: وهي التصوف الصوري كما في أيامنا هذه 3) صوفية الارزاق: وهي ادعاء التصوف لكسب الرزق واثارة عاطفة وشجون الناس، وهناك فرق كبير بين أصل الفكرة وبعض تطبيقاتها في حاضرنا اليوم. ومن الآيات التي دلت على التأمل لمعرفة حقيقة الكون وحقيقة قدرة الله هي قوله تعالى في سورة سبأ " قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فبعد أن استنفذ الرسول صلى الله عليه وسلم جميع طرق الإقناع من معجزات ظاهرة وغيره، طلب من قومه أن يتعظوا بشيء واحد فقط مشتملة جميع الكلام من نقض الشرك وإثبات الالوهية لله، والمقصود هنا قيام الليل والتأمل في الطبيعة من حولهم وفي أنفسهم ليتوصلوا من خلالها الى معرفة الله.

ومن أهم الانتقادات التي انتقدت الصوفية هي تقديسهم للعاطفة على حساب العقل. فمن الطبيعي تقديم العاطفة على العقل في ظل الحروب الطائفية والتمزق الداخلي في الامة الاسلامية لدرجة أن انسان الشارع يصعب عليه التمييز بين ما هو صحيح وخطئ ومن هو على حق ومن هو على باطل. فجاءت الصوفية كعلاج مرحلي لهذه الفترة وتولدت منها أعظم الدول الاسلامية منها على سبيل المثال الدولة الصفوية في إيران، والدولة العثمانية في تركيا. فكما قال أحد الفلاسفة لا سبيل للفصل بين العقل والعاطفة ففي كلا الحالتين الموضوع يرجع الى الدماغ. فتقول إحدى قواعد العشق الأربعون أن " العقل والحب من مادتين مختلفتين. العقل يربط الناس ربطاً محكماً ولا خوف في ذلك. أما الحبّ فإنه يفك جميع العقد وينطوي على مخاطر كبيرة. العقل حذر، يوجه النصائح دائما، ويقول ((حذار الإفراط في النشوة)). أما الحب فيقول: ((آه لابأس! خاطر باتخاذ خطوة جريئة بغض النظر عما يترتب على ذلك)). ليس سهلا على العقل أن يتفكك ولكن يمكن للحب أن يحيل نفسه، دون عناء يذكر الى حطام، بيد أن الكنوز مخفية وسط الانقاض. فالكوكب الكسير يخفي كنوزاً".

فالسؤال هنا هل يمكن لروح التصوف تقديم حل مرحلي للمعضلة التي نحن بصددها في العالم الاسلامي اليوم من تمزق ونزوح الى الغرائز الدنيا؟


وهل يمككنا الاستمرار في تعاطي الصوفية كعلاج مرحلي مستمر في ظل المآزق التي تمر بها الأمه، أم سيصبح هناك تزاوج بين المذاهب المختلفة وسينتج مذهب جديد يمكن ان يضفي بعض بصيص الأمل للأمة ؟!

Sunday 29 May 2016

الدجاجه التي تبيض ذهباً

يتحدث ستيفن كوفي في كتابه الشهير العادات السبع عن قصة صاحب المزرعه الذي وجد إحدى الدجاجات وقد باضت بيضه ذهبيه فذهب الى الصائغ ليتأكد منها، فوجد أنها فعلا من الذهب الخالص .. ظلت الدجاجه تبيض كل يوم بيضه ذهبيه واحدة وأخذ المزارع في جمع البيض سعيداً بكنزه .. وفي ذات يوم أصاب الطمع صاحب المزرعة فأراد أن يزيد من إنتاج البيض الذهبي فأخذ يقلب الدجاجة رأساً على عقب عله يجد مصدر هذا البيض السحري.. فرأى أن يقطع بطن الدجاجة عسى أن يجد منجم البيض .. إلا أنه لم يجد شيئاً. أراد الكاتب من هذه القصه أن يوضح مفهوم مهم في حياة كل انسان الى وهو مفهوم الفعالية في الحياه. فمعظم الناس يعتقدون بأن الفعالية هي عبارة عن زيادة في إنتاج شيء ما. وهذا بدوره سيؤدي الى زيادة الربح والدخل وتحقيق الذات والتقدم وكل الشعارات الرنانة والبراقة التي نسمع بها في هذا المجال. وهذا ما يحاول الكاتب إثبات عكسه .. فالموازنة بين الإنتاج والقدرة على الإنتاج أمر مهم، فيعتبر الكاتب بأن البيض هو الإنتاج وأن الدجاجة تمثل القدرة على الإنتاج .. فلا يمكن التركيز فقط على قدرة الإنتاج ورفاهية الدجاجة والتغافل عن أهمية الإنتاج نفسه وهو البيض .. وفي الجانب المقابل لا يمكن أيظاً التركيز على تكثير البيض والإعتناء به والتغافل عن الدجاجة نفسها والاهتمام بتغذيتها.

يمكن تطبيق ذلك في جميع مناحي الحياة فقد تكون مديراً تدفع موظفيك على الإنتهاء من أكبر قدر ممكن من المعاملات يومياً، وتقيدهم بمعايير أداء عالية، وقد تكون صاحب المصنع اللذي يجهد الآلات لكي يصدر أكبر عدد ممكن من وحدات الانتاج، وقد تكون ذلك الزوج اللذي يطلب أكبر قدر ممكن من التفهم والاحترام والعطاء من الزوجة، وقد تكون ذلك الشخص الذي يجهد نفسه في ملاحقة السراب والوهم في محاولات زيادة مدخوله الشهري ويكون مثل أقرانه في المستوى المعيشي فلا يجد الوقت الكافي لأسرته أو دينه أو هواياته. فلا نغفل إخواني أخواتي القراء عن أهمية الإعتناء بالقدرة على الإنتاج أيظاً. فمفهوم الإستدامة والاستمرارية له علاقة كبيرة بما نتحدث عنه هنا، حيث يقول الرسول " أفضل الأعمال عند الله أدومها وإن قل"، قد تحصل على احترام زوجتك مؤقتاً وقد ينتج مصنعك أكبر عدد ممكن من الوحدات في العالم وتكسر الرقم العالمي لموسوعات غينس، لكن بعد فوات الأوان وبعد أن أهملت أهم الأطراف في المعادلة وهي نفسك التي بين جمبيك وعلاقتها بالمجتمع من حولك. خسرت زوجتك، خسرت أبنائك، خسرت الآله التي تصنع لك، خسرت موظفيك المتميزين.. لأنك اجهدتهم وجعلتهم يبذلون مالا يطيقون فلن تستمر فعالية الإنتاج في هذه الحالة، بل ستجد نفسك وحيد في نهاية المطاف.

Tuesday 19 April 2016

عبادة العمل

الخطيب الدكتور بلال ستيفن
عنوان الخطبة: عبادة العمل 

نادراً مايكون وقع أثر خطبة الجمعة مؤثرا في المصليين، لأنه في الغالب تكون المواضيع عن أمور معروفة لدى المصلين كخطورة الوقوع بالفاحشة وأهمية تقوى الله سبحانه وتعالى .. الخ (لا أقلل هنا من أهمية هذه المواضيع من باب " فذكر ان الذكرى تنفع المؤمنين"، ويفضل ان تكون في محاضرات بين الصلوات) مع الاخذ بعين الاعتبار عامل عدم قدرة المصليين مناقشة الأفكار والمواضيع المطروحة، فانه في الغالب يأتي المصلي إلى المسجد بهدوء وسكينه ليقرأ سورة الكهف ومن ثم يجلس ليستمع إلى خطبة لم يشارك في اعدادها ولم يكن ليستطيع ان يحدد موضوعها الرئيسي، فيجلس سارح الذهن ينتظر نهايتها بسبب انشغاله الذهني بأمور حياته اليومية.

لكني اتخذت قرارا بعد قرائة كتاب الاسلام في الاسر للكاتب الليبي الصادق النيهوم أن أركز بعض الشيء في موضوع الخطبة، وأستطيع كذلك مناقشة موضوعها مع الخطيب بعد الفراغ من الصلاة. فأذكر اني ذهبت في أحد أيام الجمعه لسماع الخطبة في مسجد حينا، وإذ بالامام يبدأ خطبته بداية نمطية، وفاجئني حين أخرج عدة ورقات من جيبه بحجم A4  ليبدأ بقرائة ماهو مكتوب في الأوراق وكأنه آلة تسجيل، ولا أذكر في الحقيقه موضوع الخطبه بالضبط، هل كانت عن ضرورة غض البصر أو الزهد في الدنيا أو احترام الكبير والعطف على الصغير.. الله أعلم!!. فقررت أن أذهب بعد الصلاة وأحادث الامام بالأمر الذي ضايقني، فأول مابادرته بالسلام رد علي بابتسامه فنسيت كل ماكنت أريد ان أخبره به، واكتفيت بطلب رقم تلفونه لأكلمه في موضوع خاص لاحقا، فلم أكلمه ولن أفعل ذلك بسبب ابتسامته العفوية والجميلة التي امتصت غضبي الواضح.

على أي حال بدأ بلال خطبته بتذكير الناس بأمور رئيسية، منها أن السبب الرئيسي لقدوم معظم الوافدين اللذين يشكلون نسبة 80% من السكان إلى قطر هو فرص العمل. وليس بالضرورة أن كل من يوفر لي فرصة عمل سأذهب إليه. إذ أن ديننا الحنيف وضع معايير لاختيار العمل منها على سبيل االمثال لا الحصر أن يكون العمل ومصدر الدخل لا يتعارض مع الدين كأن يعمل في مجالات الربى أو العمل في تجارة المخدرات. كذلك من أهم الأمور التي تضفي على العمل شرعية من نوع ما هو عقد العمل، الذي هو عبارة عن وثيقة حفظ الحقوق بين الموظف وصاحب العمل، تتضمن متطلبات المرشح للوظيفه والتوصيف الوظيفي وماذا يجب عليه ان يعمل، وماذا سيحصل في المقابل. 

ويقول الله تعالى في ذلك في بداية سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ). لقد لفت الخطيب نظر المصلين الى الشرط الغير مكتوب في عقد العمل، الا وهو "العمل بأفضل ما عندك" أو بتعبير اللغة الانجليزية   Do the best you can. حيث ان ديننا الحنيف يحث على العمل، لكن ليس فقط العمل، بل عمل بأفضل ما في وسع الانسان أن يعمل. مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ ".

اذاً من واجب المسلم الديني تجاه أي عمل يعمله - وليس فقط الأعمال المربوطة بعقد، بل إي عمل يعمله المسلم بشكل عام في حياته- أن يعمله بأفضل ما عنده، لاستحضار جميع جوارحه، باستخدام جميع ما يمكن له استخدامه لينجز العمل بأفضل صورة. حينها لا يمكن له ان يتظاهر بالعمل أمام رب العمل، واذا ذهب رب العمل يتكاسل ويتقاعس، فهذه أخلاق من يعمل لأجل المال وليس لأجل ان ينجز واجبه الديني على هذه الارض، أخلاق من يعمل لأجل انهاء قائمة الاعمال المذكورة في عقد عمله فقط، لا يزيد ولا ينقص، وينتظر راتبه نهاية الشهر كاملاً مكملاً على إنجازه العظيم.

يلاحظ الناس بأن من يعمل أفضل ما عنده يَبرز بسرعه بين أقرانه ويَعرف عنه الجميع تفانيه وجده في العمل الموكل اليه، وعندها غالباً ما يعتقد الناس بأنه يريد "الدنيا" والوصول الى منصب ما، بدون أن يشقوا عن قلبه ويكشفوا نواياه الحقيقية، لكن المسلم الحق لا يلتفت الى الأقوال والقصص التي تحاك في الظلام من وراء ظهره، بل ينظر الى بقعة النور التي تملأ الأرجاء من حوله.


وفي الختام أود أن اشارك رأيي مع القارئ الكريم، فالانتاجية في العمل تعتمد بشكل كبير على ثقافة الشركة والبيئة التي تعمل فيها، فتجد موظفي الشركات الخاصة ذات البيئة الابداعية والانتاجية يتنافسون على من يقدم أفضل ما عنده، وجميعهم يعلمون أنه سيتم تقديرهم من قبل مدراءهم على العمل المنجز والطريقة التي تم بها انجاز العمل. أم بالنسبة للبيئة الروتينية التي تتمتع بها معظم الجهات الحكومية فيجد الموظف نفسه معاق (عاجز) ابداعياً، وحتى لو فكر في تغيير بعض الاجراءات او اختصارها اصطدم بالواقع البيروقراطي للاعتمادات الادارية وغيره من الموفقات التي لا حصر لها. فلا يمكن طلب من موظف ان يعطي افضل ما عنده في بيئة تأمرك وتشجعك على الالتزام الصارم بالقوانين واللوائح والاجراءات، فقط وفي ذلك الحين لن تبدع الا في تزيين مكتبك. وليتذكر اخواني الموظفين انه اليوم هو يعمل لصاحب عمل معين او مدير، لكن غدا سيكون هو رب عمل، فتعامل مع رب العمل الآن كما تحب ان يتعامل به موظفيك في المستقبل. 

Thursday 18 February 2016

الإسلام في الأسر للصادق النيهوم

الصادق النيهوم كما يلقب بسيد الكلمة، هو كاتب ليبي ولد في ثلاثينيات القرن الماضي وتوفى في سنة 1993. شكلت أفكار النيهوم جدل كبير في أوساط العالم العربي والاسلامي بين مؤيد ومعارض. فقد صدر عنه العديد من الكتب من خلال دار رياض الريس اللبنانية وغيرها من دور النشر.

يصعب على القارئ أن يستلهم أفكار النيهوم من كتاب واحد، وإنما يجب على المفكر أن يقرأ له عدة كتب ليفهم مغزى وفحوى كتاباته، ويفك الترميز التي يستخدمها النهيوم بكثرة، ومن الكتب التي يُنصح بقرائتها لنفس الكاتب هي: الاسلام ضد الاسلام، ومحنة ثقافة مزورة. اتّبع النيهوم أسلوب التغريد خارج الحزب، فهو يشكك في صحة بعض الاحاديث النبوية التي وصلت لنا عبر كتب السيرة والحديث، مما أدى الى فهمها فهم مخالف لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم، منها الاحاديث التي تحث على الزهد بالدنيا وتقوية سلطة الحاكم مهما ضربك أو أكل مالك أو انتهك عرضك، ليختلي الحاكم بالسلطة ويبدأ بالاستبداد بقلب مطمئن ويُقنع الناس بالرضى بالقليل. وعلى العكس من ذلك، حيث أن الاسلام جاء لنشر مفهوم الشورى والعدل بين الناس ودحض فكرة حكم الفرد والاستبداد والطبقية. فهو قد يهاجم الحكم الفردي ويعوز هذا العفن السياسي الذي توصلنا له اليوم الى تسامح وتساهل علماء الدين في فترة خلافة معاوية رضي الله عنه، وتجده أحياناً يتهجم على يزيد بن معاوية، وأيضا بعض علماء السلطة في ذلك الوقت. وينتقد بقسوة تحويل الخطاب الديني الى ألغاز لا يمكن فك رموزها الا قلة من العارفين، والاسلام في حقيقته دين يسر سهل الفهم على الجميع.

كانت أفكار النيهوم تتمحور حول تفعيل دور الديموقراطية الحقيقية كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين. من خلال يوم الجمعة واجتماع المسلمين في الجامع، حيث أن يوم الجمعة سلب معناة الحقيقي كما أراد له الاسلام، فالهدف الرئيسي من يوم الجمعة هو ليس كما نرى اليوم في عالمنا الاسلامي يوم إجازة وراحة، والشخص المسلم يستيقظ في ساعة متأخرة من النهار ليغتسل ويتطيب ليدخل مسجد وينصت بدون أن يتكلم بدون ان يناقش بدون أن يعترض، ويستمع الى خطبة لا تمت للواقع اليومي المُعاش بصلة. فحسب النيهوم يوم الجمعة هو اجتماع برلماني عام للمسلمين في مكان واحد يعبر كل برأيه بحرية حسب قواعد الشرع، ويناقش المسلمون الأحداث الرئيسية والقرارات التي ترتبط بهم وبمصيرهم المباشر، منها لقمة العيش اليومية والمشاكل الاقتصادية، والمشاكل الاجتماعية من مطالبة بعدل و مساواة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر..الخ.

ومن الافكار الرئيسية التي تكلم عنها النيهوم هي الإعتراض على بعض المصطلحات التي استوردناها كما هي من العالم الغربي، مع الالتزام والحرص على دقة الترجمة. فمثل هذه المصطلحات مصطلح الأحزاب السياسية والبرلمان هي بذور نبتت في مجتمع يختلف كل الاختلاف عن ظروفنا الثقافية والبيئية، فهذه المصطلحات نجحت و نشأت في بيئة غربية تكونت بعد مجيء الإقطاع وتكون طبقة عمالية من الشعب نفسه، وبعد ذلك ظهرت الثورة الصناعية، مما أدى الى غطرسة أصحاب رأس المال ومطالبة العمال بحقوقهم، فأدى ذلك الى نشوء أحزاب سياسية تدافع عن حق العمال، وأخرى تدافع عن أصحاب رأس المال، وأخرى حاكمة.. الخ. فنحن لم نستوطن أمريكا، ولم نجمع من ثروات الأرض ما يكفي لخلق اقتصاد قادر على الدفاع عن نفسه ضد الاقطاع، وليس في أيدينا أن نغير واقعاً بالكلام عن واقع سواه. لكن عندما أراد العرب تطبيق هذه السياسات في مجتمع لا يملك رأس مال ولا يملك أراض زراعية ولا يملك عمال أو أناس مستعده للعمل فشلو فشل ذريع. فالإصلاح في المجتمع لابد أن يستخدم أدواته الثقافية.


في الختام صحيح بأن النيهوم جاء بقرائه غير نمطية للنصوص الدينية والواقع قد تبدوا في البداية كأنها محاولة طائشة للتفلت من الفكر السائد والسير عكس التيار، لكن هذه الظاهرة الثقافية والاسلوب التشكيكي الذي استخدمه النهيوم يعتبر ظاهرة صحية في جو من الكبت العام وعدم القدرة على مخالفة العقل الجمعي للأمة بهذه الجرأة، ويعرفنا كمثقفين على جوانب أخرى من وجهات النظر.

Monday 18 January 2016

اختلال العالم لأمين معلوف

الكاتب هو أمين معلوف فرنسي مسيحي من أصول لبنانية، لجأ هو وعائلته الى فرنسا في عام ١٩٧٦. في هذا الكتاب يتحدث الكاتب عن الأسباب التي أدت إلى اختلال العالم الذي نعيش فيه حالياً.  فيعوز السبب الرئيسي إلى أن الدول المستوطنة مثل بريطانيا وأمريكا وغيرها من الدول العظمى التي حرصت على امتيازاتها من نهب خيرات الدول المحتلة، وكأن أخشى ما يخشونه هو تقدم السكان الأصليين وتطورهم. وقد تكلم المستعمر عن أنبل المبادئ في كل مكان، بينما في المقابل حرص على عدم تطبيقها في الأراضي التي غزاها. فالدول الغربية المستعمِرة لم تقبل قط بأن يتحدث سكان البلد الأصليون من رعاياها عن الحرية والمساواة والديمقراطية وروح المبادرة أو الوضع القانوني، بل انها كانت دوما تقمعهم حين يطالبون بها.

نعم كان هناك نخب مثقفة من الشعوب المحتلة آمنت بقيم المحتل الغربي واعتنقت مبادئ المساواة أمام القانون، وحرية الكلمة أو حرية التجمع مثل غاندي، كانت هذه النخب الداعية للحداثة هي التي كانت تصوغ المطالب الأكثر جرأة وتحرض الثورات، لكن أنظمة الحكم ما تكاد تتبدل بثورة أو انقلاب حتى يبدو أن المثقف بين عشية وضحاها أصبح لاغياً، فكانت تتعرض دوماً للخيبة والمرارة ويحاول المستعمر شرائها بالمال، أو التهديد، واذا ما تمسك بموقفه كانوا يسعون الى عزله.

وفي أفضل الاحوال تصعد إلى القمة فئة لا شأن لها بالمثقف ورؤيته – فالمثقف أصلا زاهدا في السلطة، ولا يفهم أساليبها ولاسيما أساليب ديمومتها. أما الفئة الجديدة، فإن لها رؤيتها ولغتها الكافية لأغراضها. ويصبح المثقف القديم صاحب الرؤيا والرسالة الأصلية يعمل لصالح الفئة الجديدة " البوقات والطبول"  تجعل منه صورة مؤطره، تحتويه وتدجنه وفق حاجتها. لكنها بارعة في نوع من الكلام لا يقل في قدرته على التجريح والتشنيع عن شتائم، وهذا الكلام يسمونه نقداً. هذا الجوق يحمي بين أفراده أدعياء للثقافة والعلم، يستخدمون لغة المثقفين والمتعلمين، لتسفيه أهل الثقافة والعلم، لأنهم عاجزون عن إدراك الحقيقة في كليهما. ولحسن الحظ، فإن النظام سرعان ما يشعر بالدور المثبط الذي يلعبه هؤلاء الافراد، وهو قد غدى في غنى عنهم، وهم أيضا، فيعود النظام في رؤيته الثقافية الى الوراء، الى ما كان قد جرب واستنفد من زمان، وحجته في ذلك العودة الى التراث. والعودة لا تكون الى ذلك التراث الحي بنواحيه الدينامية، بنواحيه المتطلعة، وإلى كل ما هو قادم في حلم البشرية- تلك النواحي التي هي في الاساس من فكر المثقفين الحقيقيين- أبداً. إن العودة تكون في الغالب الى النواحي السكونية والغيبية التي في التراث، لاعتقاد أصحاب الأنظمة أن الجماهير مازالت فكرياً على قصورها الذاتي، وانها تتغذى بمثل هذه العناصر السلفية الراكدة.

مشكلة أخرى تسببت في اختلال العالم وهي محاولة تطبيق الديمقراطية الخاطئ في دول لم تعتد على النظام الديمقراطي. فمثلا نلاحظ أن السلطات الأمريكية أقامت منذ الأسابيع الأولى من احتلال العراق نظاماً للتمثيل السياسي يرتكز على الانتماء الديني، الأمر الذي أحدث انفلاتاً للعنف لا سبق له. فالطائفية لا تشجع على الديمقراطية إطلاقاً، والطائفية إنكار لفكرة المواطنة بالذات.

يقول الصادق النيهوم في كتابة الاسلام في الأسر أن المصطلحات التي استوردناها كما هي من العالم الغربي مع التزامنا وحرصنا على تحري دقة الترجمة - فمثلا مصطلح الأحزاب السياسية والبرلمان والديموقراطية.. الخ - هي في الأصل بذور نبتت في تربة مجتمع يختلف كل الاختلاف عن ظروفنا الثقافية والبيئية، فهذه المصطلحات نجحت و نشأت في بيئة غربية تكونت بعد مجيء الاقطاع وتكون طبقة عمالية من الشعب نفسه، وبعد ظهور الثورة الصناعية، مما أدى الى غطرسة أصحاب رأس المال ومطالبة العمال بحقوقهم، فأدى ذلك الى نشوء أحزاب سياسية تدافع عن حق العمال، وأخرى تدافع عن أصحاب رأس المال، وأخرى حاكمة.. الخ. فنحن لم نستوطن أمريكا، ولم نجمع من ثروات الأرض ما يكفي لخلق اقتصاد قادر على الدفاع عن نفسه ضد الاقطاع، وليس في أيدينا أن نغير واقعاً بالكلام عن واقع سواه.

من الامور الأخرى التي تتسبب في اختلال العالم هي شرعية الحاكم وقبول الشعب لسلطه ما، فالحاكم الشرعي حسب رأي الكاتب هو من يعيد الى الشعب كرامته المفقودة، فاليأس الذي كان يشعر به الشخص العربي في عصر عبدالناصر ليس وليد سنة ١٩٦٧ ولا وليد سنة ١٩٤٨ ، ولا وليد نهاية الحرب العالمية الأولى، وإنما هو مآل سيرورة تاريخية لا يمكن أن يختصرها أي حدث أو تاريخ. انه تاريخ أمة عرفت عهداً كبيراً من المجد، أعقبه سقوط طويل، فهو منذ مئتي سنة يتوق إلى النهوض، لكنه يعود كل مرة إلى السقوط، وتعاقبت عليه الهزائم والخذلانات والاهانات الى أن ولد جمال عبدالناصر، ولأنه أعاد للشعب كبريائه بعد ضياع، فإذن يستطيع القائد أن يحمله على قبول كثير من الأمور، يقدر أن يفرض عليه تضحيات وتضييقيات. ويستطيع في بعض الاحيان ان يبدوا طاغية، لكن يبقى مع ذلك مسموع الكلمة، مطاعا ومحاطا بالحماية. على النقيض من ذلك، الحاكم غير الشرعي هو من تبدى في حماية الدول المعادية، فكل ما يفعله يكون عرضة للازدراء، فاذا شاء تحديث البلاد عارض الشعب التحديث، واذا حاول تحرير المرأة، امتلأت الشوارع بالمحجبات.

فغياب الشرعية بالنسبة الى معظم المجتمعات البشرية، هو شكل من أشكال انعدام الوزن الذي يخلخل كل السلوكيات. فمتى كانت أية سلطة، أية مؤسسة أية شخصية، لا تستطيع أن تحوز على شرعية معنوية حقيقية من نوع ما، متى بلغ الأمر بالناس إلى حد الاعتقاد بأن العالم غابة يسودها الأقوى، وكل الضربات فيها مباحة، لا يعود هناك بد من الانجراف نحو العنف القاتل، والطغيان والفوضى.

فخذ مثالا على الاحباط الذي يمكن ان يجرف الى التطرف والعنف، فإحدى العبر التي تستخلص من هجمات ١١ ايلول سبتمبر ٢٠٠١ هي أنه ما من اختلال يبقى محلياً صرفاً، وهو حين يصيب المشاعر، ورؤية الذات والحياة اليومية لمئات الملايين من الناس، تظهر مفاعيله في طول الكرة الأرضية.

في النهاية تطرق الكاتب الى قضية أن الشعب الأمريكي والذي يمثل ٥٪ من سكان العالم، وما يتمتع به من ديمقراطية، يتحكم بمصير ٩٥٪ منسكان العالم، فنجد عدم التكافؤ في ميزان القوى المؤثرة على اتخاذ القرار العالمي. وحسب رأي الكاتب الولايات المتحدة هي المستفيد بلا شك من هذا الاختلال الذي نلاحظه في الادارة السياسية لشؤون الكرة الأرضية، لكنها ضحيتها أيضاً.
فإن كل كائن طبيعي كان أو معنويا، يحتاج إلى وضع حدود له. وكل حكم يحتاج إلى حكم مضاد، لأجل حماية الآخرين من تجاوزاته، وكذلك لأجل حماية نفسه أيضاً. كما أنه أحد أسس الديمقراطية الأمريكية وأحد القواعد الأساسية في السياسة المبدأ القائل بالتوازن في القوى الذي بموجبه لا يستطيع أي مرجع أن يمارس صلاحياته دون أن يكون قبالته مرجع آخر يمنعه من الشطط. الثقل السياسي الذي تتمتع به أمريكا سبب في اختلال النظام الاقتصادي العالمي أيضاً

لقد حان الوقت لتغيير عاداتنا وأولوياتنا كي نصغي بمزيد من الجدية إلى ما يقوله لنا العالم الذي نبحر على متنه. ذلك أنه لم يعد ثمة غرباء في هذا القرن، لم يعد ثمة إلا "رفقاء سفر” . وسوآءا كان معاصرونا يسكنون الجهة الأخرى من الشارع أو الجهة الأخرى من الكرة الأرضية ، فهم لا يبعدون عنا سوى خطوتين وتصرفاتنا تمسهم في الصميم، وتصرفاتهم تمسنا في الصميم. فلم يعد في وسعنا أن نكتفي بمعرفة (الاخرين) معرفة تقريبية، سطحية، غليظة. إنما نحن بحاجة إلى معرفتهم معرفة دقيقة، لصيقة، وحميمية. ولا يمكن أن تتحقق هذه المعرفة إلا من خلال ثقافتهم وبالدرجة الأولى آدابهم. فالعمق الحميم لكل شعب هو آدابه، إذ إنه هنا يكشف عن أهوائه، وطموحاته، وأحلامه، وحرماناته ، ومعتقادته، ورؤيته للعالم المحيط به، ورؤيته لذاته وللآخرين ، بمن فيهم نحن. ذلك أننا حين نتكلم عن (الآخرين) يجب أن لا نغيب نحن عن بالنا أبدا، أيا كنا، وأينما كنا، إننا نحن أيضاً ((الآخرون)) بالنسبة إلى سائر الآخرين.