Monday, 18 January 2016

اختلال العالم لأمين معلوف

الكاتب هو أمين معلوف فرنسي مسيحي من أصول لبنانية، لجأ هو وعائلته الى فرنسا في عام ١٩٧٦. في هذا الكتاب يتحدث الكاتب عن الأسباب التي أدت إلى اختلال العالم الذي نعيش فيه حالياً.  فيعوز السبب الرئيسي إلى أن الدول المستوطنة مثل بريطانيا وأمريكا وغيرها من الدول العظمى التي حرصت على امتيازاتها من نهب خيرات الدول المحتلة، وكأن أخشى ما يخشونه هو تقدم السكان الأصليين وتطورهم. وقد تكلم المستعمر عن أنبل المبادئ في كل مكان، بينما في المقابل حرص على عدم تطبيقها في الأراضي التي غزاها. فالدول الغربية المستعمِرة لم تقبل قط بأن يتحدث سكان البلد الأصليون من رعاياها عن الحرية والمساواة والديمقراطية وروح المبادرة أو الوضع القانوني، بل انها كانت دوما تقمعهم حين يطالبون بها.

نعم كان هناك نخب مثقفة من الشعوب المحتلة آمنت بقيم المحتل الغربي واعتنقت مبادئ المساواة أمام القانون، وحرية الكلمة أو حرية التجمع مثل غاندي، كانت هذه النخب الداعية للحداثة هي التي كانت تصوغ المطالب الأكثر جرأة وتحرض الثورات، لكن أنظمة الحكم ما تكاد تتبدل بثورة أو انقلاب حتى يبدو أن المثقف بين عشية وضحاها أصبح لاغياً، فكانت تتعرض دوماً للخيبة والمرارة ويحاول المستعمر شرائها بالمال، أو التهديد، واذا ما تمسك بموقفه كانوا يسعون الى عزله.

وفي أفضل الاحوال تصعد إلى القمة فئة لا شأن لها بالمثقف ورؤيته – فالمثقف أصلا زاهدا في السلطة، ولا يفهم أساليبها ولاسيما أساليب ديمومتها. أما الفئة الجديدة، فإن لها رؤيتها ولغتها الكافية لأغراضها. ويصبح المثقف القديم صاحب الرؤيا والرسالة الأصلية يعمل لصالح الفئة الجديدة " البوقات والطبول"  تجعل منه صورة مؤطره، تحتويه وتدجنه وفق حاجتها. لكنها بارعة في نوع من الكلام لا يقل في قدرته على التجريح والتشنيع عن شتائم، وهذا الكلام يسمونه نقداً. هذا الجوق يحمي بين أفراده أدعياء للثقافة والعلم، يستخدمون لغة المثقفين والمتعلمين، لتسفيه أهل الثقافة والعلم، لأنهم عاجزون عن إدراك الحقيقة في كليهما. ولحسن الحظ، فإن النظام سرعان ما يشعر بالدور المثبط الذي يلعبه هؤلاء الافراد، وهو قد غدى في غنى عنهم، وهم أيضا، فيعود النظام في رؤيته الثقافية الى الوراء، الى ما كان قد جرب واستنفد من زمان، وحجته في ذلك العودة الى التراث. والعودة لا تكون الى ذلك التراث الحي بنواحيه الدينامية، بنواحيه المتطلعة، وإلى كل ما هو قادم في حلم البشرية- تلك النواحي التي هي في الاساس من فكر المثقفين الحقيقيين- أبداً. إن العودة تكون في الغالب الى النواحي السكونية والغيبية التي في التراث، لاعتقاد أصحاب الأنظمة أن الجماهير مازالت فكرياً على قصورها الذاتي، وانها تتغذى بمثل هذه العناصر السلفية الراكدة.

مشكلة أخرى تسببت في اختلال العالم وهي محاولة تطبيق الديمقراطية الخاطئ في دول لم تعتد على النظام الديمقراطي. فمثلا نلاحظ أن السلطات الأمريكية أقامت منذ الأسابيع الأولى من احتلال العراق نظاماً للتمثيل السياسي يرتكز على الانتماء الديني، الأمر الذي أحدث انفلاتاً للعنف لا سبق له. فالطائفية لا تشجع على الديمقراطية إطلاقاً، والطائفية إنكار لفكرة المواطنة بالذات.

يقول الصادق النيهوم في كتابة الاسلام في الأسر أن المصطلحات التي استوردناها كما هي من العالم الغربي مع التزامنا وحرصنا على تحري دقة الترجمة - فمثلا مصطلح الأحزاب السياسية والبرلمان والديموقراطية.. الخ - هي في الأصل بذور نبتت في تربة مجتمع يختلف كل الاختلاف عن ظروفنا الثقافية والبيئية، فهذه المصطلحات نجحت و نشأت في بيئة غربية تكونت بعد مجيء الاقطاع وتكون طبقة عمالية من الشعب نفسه، وبعد ظهور الثورة الصناعية، مما أدى الى غطرسة أصحاب رأس المال ومطالبة العمال بحقوقهم، فأدى ذلك الى نشوء أحزاب سياسية تدافع عن حق العمال، وأخرى تدافع عن أصحاب رأس المال، وأخرى حاكمة.. الخ. فنحن لم نستوطن أمريكا، ولم نجمع من ثروات الأرض ما يكفي لخلق اقتصاد قادر على الدفاع عن نفسه ضد الاقطاع، وليس في أيدينا أن نغير واقعاً بالكلام عن واقع سواه.

من الامور الأخرى التي تتسبب في اختلال العالم هي شرعية الحاكم وقبول الشعب لسلطه ما، فالحاكم الشرعي حسب رأي الكاتب هو من يعيد الى الشعب كرامته المفقودة، فاليأس الذي كان يشعر به الشخص العربي في عصر عبدالناصر ليس وليد سنة ١٩٦٧ ولا وليد سنة ١٩٤٨ ، ولا وليد نهاية الحرب العالمية الأولى، وإنما هو مآل سيرورة تاريخية لا يمكن أن يختصرها أي حدث أو تاريخ. انه تاريخ أمة عرفت عهداً كبيراً من المجد، أعقبه سقوط طويل، فهو منذ مئتي سنة يتوق إلى النهوض، لكنه يعود كل مرة إلى السقوط، وتعاقبت عليه الهزائم والخذلانات والاهانات الى أن ولد جمال عبدالناصر، ولأنه أعاد للشعب كبريائه بعد ضياع، فإذن يستطيع القائد أن يحمله على قبول كثير من الأمور، يقدر أن يفرض عليه تضحيات وتضييقيات. ويستطيع في بعض الاحيان ان يبدوا طاغية، لكن يبقى مع ذلك مسموع الكلمة، مطاعا ومحاطا بالحماية. على النقيض من ذلك، الحاكم غير الشرعي هو من تبدى في حماية الدول المعادية، فكل ما يفعله يكون عرضة للازدراء، فاذا شاء تحديث البلاد عارض الشعب التحديث، واذا حاول تحرير المرأة، امتلأت الشوارع بالمحجبات.

فغياب الشرعية بالنسبة الى معظم المجتمعات البشرية، هو شكل من أشكال انعدام الوزن الذي يخلخل كل السلوكيات. فمتى كانت أية سلطة، أية مؤسسة أية شخصية، لا تستطيع أن تحوز على شرعية معنوية حقيقية من نوع ما، متى بلغ الأمر بالناس إلى حد الاعتقاد بأن العالم غابة يسودها الأقوى، وكل الضربات فيها مباحة، لا يعود هناك بد من الانجراف نحو العنف القاتل، والطغيان والفوضى.

فخذ مثالا على الاحباط الذي يمكن ان يجرف الى التطرف والعنف، فإحدى العبر التي تستخلص من هجمات ١١ ايلول سبتمبر ٢٠٠١ هي أنه ما من اختلال يبقى محلياً صرفاً، وهو حين يصيب المشاعر، ورؤية الذات والحياة اليومية لمئات الملايين من الناس، تظهر مفاعيله في طول الكرة الأرضية.

في النهاية تطرق الكاتب الى قضية أن الشعب الأمريكي والذي يمثل ٥٪ من سكان العالم، وما يتمتع به من ديمقراطية، يتحكم بمصير ٩٥٪ منسكان العالم، فنجد عدم التكافؤ في ميزان القوى المؤثرة على اتخاذ القرار العالمي. وحسب رأي الكاتب الولايات المتحدة هي المستفيد بلا شك من هذا الاختلال الذي نلاحظه في الادارة السياسية لشؤون الكرة الأرضية، لكنها ضحيتها أيضاً.
فإن كل كائن طبيعي كان أو معنويا، يحتاج إلى وضع حدود له. وكل حكم يحتاج إلى حكم مضاد، لأجل حماية الآخرين من تجاوزاته، وكذلك لأجل حماية نفسه أيضاً. كما أنه أحد أسس الديمقراطية الأمريكية وأحد القواعد الأساسية في السياسة المبدأ القائل بالتوازن في القوى الذي بموجبه لا يستطيع أي مرجع أن يمارس صلاحياته دون أن يكون قبالته مرجع آخر يمنعه من الشطط. الثقل السياسي الذي تتمتع به أمريكا سبب في اختلال النظام الاقتصادي العالمي أيضاً

لقد حان الوقت لتغيير عاداتنا وأولوياتنا كي نصغي بمزيد من الجدية إلى ما يقوله لنا العالم الذي نبحر على متنه. ذلك أنه لم يعد ثمة غرباء في هذا القرن، لم يعد ثمة إلا "رفقاء سفر” . وسوآءا كان معاصرونا يسكنون الجهة الأخرى من الشارع أو الجهة الأخرى من الكرة الأرضية ، فهم لا يبعدون عنا سوى خطوتين وتصرفاتنا تمسهم في الصميم، وتصرفاتهم تمسنا في الصميم. فلم يعد في وسعنا أن نكتفي بمعرفة (الاخرين) معرفة تقريبية، سطحية، غليظة. إنما نحن بحاجة إلى معرفتهم معرفة دقيقة، لصيقة، وحميمية. ولا يمكن أن تتحقق هذه المعرفة إلا من خلال ثقافتهم وبالدرجة الأولى آدابهم. فالعمق الحميم لكل شعب هو آدابه، إذ إنه هنا يكشف عن أهوائه، وطموحاته، وأحلامه، وحرماناته ، ومعتقادته، ورؤيته للعالم المحيط به، ورؤيته لذاته وللآخرين ، بمن فيهم نحن. ذلك أننا حين نتكلم عن (الآخرين) يجب أن لا نغيب نحن عن بالنا أبدا، أيا كنا، وأينما كنا، إننا نحن أيضاً ((الآخرون)) بالنسبة إلى سائر الآخرين.